العنف ضد النساء: ظاهرة تتجدد بأقنعة جديدة… ومعركة لم تُحسم بعد
بمناسبة الاحتفال باليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة
العنف ضد النساء:
ظاهرة تتجدد بأقنعة جديدة… ومعركة لم تُحسم بعد
إننا لسنا أمام أزمة سلوك، بل أمام أزمة قيم وتنشئة ومؤسسات
يستمر العنف ضد النساء في المغرب والعالم كواحدة من أخطر انتهاكات حقوق الإنسان، رغم التقدم التشريعي والمؤسساتي. وتُظهر المعطيات الدولية أنّ امرأة من كل ثلاث نساء عالمياً(1/3) تعرضت لشكل من أشكال العنف، بينما تكشف الأرقام الوطنية أن 57 % من النساء المغربيات من 15 إلى 74 سنة قد تعرضنّ لعنف واحد على الأقل خلال سنة واحدة فقط.
كما تقدر بيانات 2024 الدولية حول جرائم القتل المرتبطة بالنوع (fémicides) بأن حوالي 83.000 امرأة وفتاة قُتلن عمداً، وأن حوالي 50.000 منهن (قرابة 60%) قُتلن على يد شريك حميم أو أحدأفراد الأسرة في المجال الخاص. كما تبرز بيانات اليونيسيف ومنظمات أخرى أن1 من 6 فتيات مراهقات تعرّضت لعنف من شريكٍ في الآونة الأخيرة، وهو ما يبيّن هشاشة الفتيات المراهقات وسهولة تعرضهن للعنف.
وهذه ليست مجرد أرقام فجة صامتةً؛ بل هي صرخات مكتومة داخل البيوت، وصمت طويل يقف بين المرأة والمساواة وبين المرأة والعدالة.
ويتخذ العنف أشكالاً متعددة تشمل الجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي، ويبرز اليوم العنف الرقمي كأسرعها انتشاراً، خصوصاً مع الصور المُفبركة، الابتزاز، والتشهير عبر المنصات الرقمية.
ولا يزال العالم، والمغرب جزء منه، يعيد خطاباته السنوية حول العنف ضد النساء وكأنه يكتشف الظاهرة كل مرة من جديد. ففي سنة 2025، ورغم كل الجهود التشريعية والبرامج الاجتماعية والحملات المؤسساتية، يبقى السؤال المؤرق كما هو:كيف يمكن لمجتمع يفاخر بتقدمه أن يعجز عن حماية نصف مكوناته؟
العنف الرقمي… الوجه الأحدث للعنف الأكثر قِدَماً
لقد أصبح الفضاء الرقمي، في 2025، ساحة جديدة للعنف. فهو لم يعد – وفق الحملة الأممية الرسمية لسنة 2025 – مجرد مضايقات عابرة ومتفرقة، بل أصبح أنظمة كاملة للتصيد، والتشهير، والابتزاز، وانتحال الصفة والهوية، وتوليد صور جنسية مفبركة بالذكاء الاصطناعي وغيره من إبداعات العالم الافتراضي.
إنه عنف حقيقي، يترك ندوباً لا تقل قسوة عن الندوب الجسدية. والنساء الأكثر حضوراً في المجال العام-الصحفياتوالناشطاتوالفاعلات الاقتصاديات والمؤثرات والسياسيات – يتعرضن أكثر من غيرهن لهذه الهجمات المنظمة.
والمؤلم في الأمر هو أن القوانين ما تزال بطيئة، تسير بسرعة السلحفاةفي مواجهة سرعة التكنولوجيا. والمنصات الرقمية ما زالت تختبئ وراء شعارات الحرية، بينما تتحول أجهزتها إلى آلة إسكات ممنهج للنساء.
المغرب بين التقدم التشريعي و”حقيقة” الممارسة
لا يمكن إنكار أن المغرب راكم مكاسب مهمة، من ضمنها: القانون 103.13 لمحاربة العنف (دخل حيز التنفيذ في شتنبر 2018) إحداث الخلايا المحلية للتكفل بالنساء، وضع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة العنف (أفق 2030) وإحداث الخط الأخضر 3537، بجانب انخراط المجتمع المدني بقوة في هذا المسار.
لكن، ورغم هذه الخطوات، تبقى الحقيقة مُرّة، والواقع أكثر عنادا: فأغلب النساء لا يُبلّغن خوفاً من الفضيحة، كما يظلّالعنف النفسي والاقتصادي غير مرئي وغير مبلّغ عنه، وما زالت القرى والمناطق الهشة بعيدة عن منظومة الحماية، فيما العديد من الضحايا يجدن أنفسهن وجهاً لوجه مع جهاز إداري أو قضائي لا يملك بالضرورة التعاطف empathie الواجب والحساسية اللآزمة أو التكوين الكافي للتعامل معهن.والأخطر من هذا كله، هو أن الثقافة المجتمعية ما تزال تُبرر العنف أو تُحمّل الضحية جزءاً من المسؤولية.
وما بين النص القانوني والواقع الاجتماعي، تضيع النساء في منطقة رمادية لا تمنحهن الحماية الفعلية والكاملة.
العنف ليس حادثاً فردياً… بل هو نظاماً يعيد إنتاج نفسه
إن الأمر لا يتعلق فقط بعنف معزول مقترف من طرف زوج أو شريك عنيف أو معتدٍ مجهول. بل هو منظومة كاملة، تشمل نظام التنشئة الذي يعلّم البنت الخضوع والخنوع ويعلم الولد السيطرة والبطش؛ وتشمل إعلاما يُطبع مع الإهانة والعلاقات السامة؛ وتشمل وصمة اجتماعية تُسكت الضحايا؛ واقتصادا هشا يجعل آلاف النساء رهينات للمعيل؛ كما يشمل فضاء رقميا يضاعف من الهشاشة ويُحوّل المرأة إلى هدف سهل.
إننا بالفعل لسنا أمام أزمة سلوك، بل أمام أزمة قيم.
الحاجة إلى إصلاحات عميقة… وإلى جرأة سياسية وثقافية
لم يكن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مبالغاً حين وصف في تقريره في سنة 2020:“القضاء على العنف ضد الفتيات والنساء: استعجال وطني”. ولم يكن العالم بدوره مخطئاً حين جعل العنف الرقمي محور حملة الأمم المتحدة لسنة 2025.
فالتحديات واضحة، والحلول ليست مستحيلة: أولا، باعتبار مكافحة العنف ضد النساء أولوية وطنية حقيقية، لا مجرد مناسبة سنوية. وثانيا بمراجعة القانون 103.13 وسدّ ثغراته، خصوصاً في العنف الاقتصادي والرقمي، ثم، بوضع منظومة حماية ترابية شاملة تشمل القرى والمناطق النائية، إضافة إلى تعزيز وتقوية شبكة الفضاءات والملاذات الآمنة ومراكز الإيواء التي تعمل 24/24.
ولكن المعركة الأساسية المربحة والطويلة الأمد هي الرهان على التربية على حسن السلوك والأخلاق السوية داخل الأسر وفي المدرسة وفي الفضاء العمومي وداخل المجتمع، واعتماد تربية جديدة لا تعيد إنتاج نفس الفكر الذكوري المريض، مع التسلح بإعلام يشتغل على القيم، لا على الإثارة وتهييج الأحاسيس، إضافة إلى الحرص على تحسين الولوج إلى العدالة وتجاوز التعقيدات الإدارية والمسطرية وإشراك الرجال أساسا في الحل، لأن الصمت الذكوري جزء من المشكلة.
صرخة أخيرة…
هذا ليس من أجل النساء فقط، بل من أجل المجتمع كله
فأنا لا أكتب من موقع المحايد. ولا يمكن أن أكون محايداً أمام جرح يومي يطعن كرامة وطن بأكمله.
فالعنف ضد النساء ليس قضية الفئة النسائية فقط، بل هو وصمة عار على جبين البشرية ككل، وهو قضية مجتمع يريد أن يحترم نفسه. ولا يمكن لأي مشروع ديمقراطي أو تنموي أن ينجح في ظل نساء خائفات أو مهددات أو صامتات.
إنها معركة كرامة قبل أن تكون معركة قوانين.وهي معركة وعي قبل أن تكون معركة مؤسسات. وعلينا أن نجعل هذه المعركة أولوية وطنية فوق–قطاعية، وأن نحول مقاومة العنف إلى التزام وطني جماعي يضمن الأمان والكرامة لجميع النساء بدون استثناء.
ففي سنة 2025، ندعو إلى شيء واحد فقط:ألا نصمت بعد اليوم. لأن الصمت هو الشريك الأكبر للعنف…والصوت، حين يعلو، فهو ليس صراخاً… بل صيحة ضمير وبداية شفاء.
عبد اللطيف أعمو















أضف تعليقاً