?>

ندوة التمرين: الجذور والأهداف والغايات

daumier-petite-conf

بمناسبة انعقاد ندوة التمرين الأخيرة بأكادير بتاريخ 8 مارس 2022 والمستوى الرفيع للعرض الذي قدمته كاتبة الندوة، التي اختيرت لذلك، بناء على تفوقها وقوة حدسها في التحليل، وما أثار انتباهي حول صخب النقاش المثار بمناسبة تنظيم ندوة التمرين الوطنية بمدينة الناضور في 11 يونيو 2022، من طرف جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وما تلا ذلك من ملاحظات تتسم بالشدة والابتعاد عن جوهر الموضوع وعمق فكرة ندوة التمرين، ارتأيت التعليق وإثارة الجذور والغايات من ندوة “التمرين” مؤكدا في ذات الوقت بأن ندوة التمرين وما يدور حولها، ليست مجرد شكليات، ولا يمكن اختزالها في مجرد التباري والتنافس على الألقاب، رغم  رمزيتها.

par-1369627-jpg_1253833_660x287

ندوة  التمرين:  الجذور والأهداف والغايات

من فن المرافعة إلى فن التحليل

في إحدى زياراتي لمتحف هيئة المحامين بباريس، استوقفتني لوحة لغابرييل دي سان أوبان Gabriel de Saint Aubin يعود تاريخها لسنة 1776[1]، تمثل أجواء الندوات المنظمة في مكتبة المحامين، حيث تقام محاضرات هيئة المحامين بباريس. وتمثل في نهاية طاولة كبيرة، محاميا يترافع أمام زملائه، وهو يرتدي عباءة.

لوحة

وفي أعلى اللوحة، يعبر صاحب اللوحة بطريقة أيقونية عن رمزية “الندوة”، حيث تعلو العدالة justice ، بسيفها وموازينها.  وأسفلها تظهر الحقيقة vérité، وعلى يسارها تتربع الفصاحة éloquence، حاملة كتاب “روح القوانين”  De l’esprit des lois [2] وتسلم لها مرآتها؛ وهي تسكب من جرتين سيلا من الكلمات، حيث يمكننا أن نرى من خلالها صورة لقطة صغيرة، ترمز إلى المكر  astuce ، وصورة لعبقري صغير petit génie يرمز للحرية. وهي لوحة تقدم لنا صورة عن رمزية الخطابة في أواخر القرن الثامن عشر، وترمز كذلك إلى الرابط القوي بين قيم العدل والحرية، وتوظيف فن الخطابة لإظهار الحقيقة في الأداء المهني للمحامي.

375px-Montesquieu,_De_l'Esprit_des_loix_(1st_ed,_1748,_vol_1,_title_page)

سياق و مسار “الندوة”

ينسب التأسيس لفن الخطابة القضائية للفيلسوف السفسطائي اليوناني أنتيفون antiphon [3]، حيث تشير المصادر إلى أنه أول خطيب تنشر له مرافعات وخطب. وهو الذي بين في كتاباته التقنيات التي يجب اتباعها للقيام بمرافعة جيدة.  وكانت خطبه عبارة عن دروس لتلامذته لتمرينهم على فن الفصاحة وإتقان الترافع من خلال محاكمات خيالية، مستمدة من مواضيع من نسج الخيال. وكانت هذه النصوص عبارة على نماذج للمحاجة والمجادلة وتتضمن صك الاتهام والدفاع والتعقيب على الدفاع و الدفاع الأخير.

antifonte  انتيفون

ويقال أن مباراة ندوة التمرين في فن الفصاحة قد تستمد جذورها من الهدف الذي كان يتوخاه أنتيفون اليوناني، في قولته بأن “الإقناع فن، وأن الإقناع لا يتأتى إلا مع الممارسة”.

وتتم مقاربة مصطلح ومفهوم ” الندوة ” بطريقتين. فالطريقة الأولى تشير إلى العملية الفكرية التي تتمثل في تقريب وجهات النظر والمقارنة والمواجهة أو التواجه، حيث يقول بخصوصها مونتيني Montaigne (1533– 1592)  “أن أكثر تمارين الذهن المنعشة للذاكرة هي الندوة، فإذا ترافعت وتجادلت مع روح قوية ومع منافس شرس، فإنه يضغط على جانبك، ويشدك تارة إلى اليسار وتارة إلى اليمين ويناقشك ببراعة، ويتجاذب خيالك مع خياله”.

وفي الطريقة الثانية، يوظف مصطلح “الندوة” لتسمية الهيئة التي تتولى تنظيم المواجهة اللفظية.

وتشير المصادر إلى أن ندوة التمرين أحدثت أول الأمر من طرف هيئة المحامين بباريس بفرنسا في القرن السابع عشر، وكانت “الندوة” حينها مخصصة للمحامين القدامى، الذين كانوا يعالجون، تحت رئاسة النقيب، أخلاقيات المهنة أو قضايا الجدول. وكانت هذه الندوات تسمى “الندوات التأديبية” فأصبحت فيما بعد تسمى باجتماعات مجلس الهيئة.

فظهر تعدد من الندوات في القرن الثامن عشر. وتضاعف عددها في القرن الموالي. فاقترح البعض كموضوع للندوات مناقشة مسائل قانونية، فيما اقترح البعض الآخر مناقشة مسائل سياسية  أو  اقتصادية.

فالأولى ذات الصبغة القانونية، كانت تنظم للتحضير للمناقشات القانونية، فيما الثانية كانت مفيدة للتحضير للنقاشات البرلمانية. فاختلف وضع هذه الندوات، من ندوات غير رسمية، باعتبارها تنظم بمبادرة خاصة، وتم تجميعها تحت تسمية “المحادثات” parlottes، فيما ارتبطت الأخرى، بالمؤسسات، وبهيئات معينة، وكانت تحكمها لوائح تقرها هذه المؤسسات في إطار سلطتها المعيارية.

ومهما كان الشكل، وحتى لو كان للكثير من الندوات وجود مؤقت وغير قار، فقد كانت تلك الحقبة حبلى بالنقاشات العمومية والخاصة، وكان من المألوف أن يواظب الناس على الحضور في أكثر من ندوة واحدة، لأن ذلك الزمن كان زمن النقاشات الفكرية و النزالات  الشفهية بامتياز (بداية عهد الأنوار).

لكن الجانب التكويني للمحامين المتمرنين، ظل غير كاف، بهذه الصيغة. فأحدثت بالموازاة مع ندوة القدامى التي تعالج حصريا القضايا والمشاكل المستعصية، ندوة التمرين للمحامين المتمرنين ابتداء من سنة 1710، وتهدف أساسا إلى تفسير القانون وتنظيم مهنة المحاماة، بجانب خلق روح الزمالة بين المحامين القدامى والجدد، إضافة إلى تمكين مجلس الهيئة من تتبع خطوات المحامين المتمرنين وتأطيرهم أخلاقيا وعلميا.

هذا، بجانب “ندوات الفقه” التي يمكن مقارنتها بالمؤتمرات والندوات الحالية، والتي كانت تسمى كذلك” ندوات الخزانة” نسبة إلى المكان الذي ألقى فيه المحامي المتمرن بوني عرضه بمناسبة افتتاح السنة القضائية لعام 1786.[4]

وبعد فترة من المنع، والتي دامت  قرابة  20 سنة (1790 – 1810) في عهد نابليون، وبحلول الثورة الفرنسية، تمت إعادة إحياء ندوة المحامين المسجلين بالجدول، التي كانت تقتصر خلال فترة المنع على تدارس حالات الدفاع عن المعوزين، بعد أن تمت إعادة الاعتراف بجدول هيئة المحامين من قبل نابليون الأول بمقتضى مرسوم 14 دجنبر 1810، فعادت الندوات لتهتم بالمحامين المتمرنين وبتكوينهم وبتدريبهم على فن المرافعة وعلى مناقشة القضايا القانونية. وكانت ندوات التمرين تنطلق في شهر نونبر لتنتهي في شهر يونيو من كل سنة.

وفي سنة 1818 تأسست ندوة المحامين بهيئة باريس conférence des avocats du barreau de Paris  ، لتحل محل “ندوة التدريب” مع اختفاء التدريب الإلزامي لولوج مهنة المحاماة، بإحداث شهادة الكفاءة لمهنة المحاماة (CAPA). وهي مسابقة تجمع كل سنة اثني عشر (12) محاميًا شابًا ينتخبهم أقرانهم على إثر مسابقة بلاغة، بهدف توفير دفاع جنائي طارئ في القضايا الحساسة بشكل خاص .

وهنا يجب عدم الخلط بين ندوة المحامين بهيئة باريس وبين ندوة تمرين المحامين بمجلس الدولة ومحكمة النقض، والتي تنظم منذ سنة 1858 تحت رعاية المحامين بمجلس الدولة ومحكمة النقض.

الحاجة إلى بنية  لتعزيز  التكوين

في سنة 1838، حددت مداولات مجلس هيئة المحامين في مجلس الدولة ومحكمة النقض، برئاسة ديزيريه دالوز Désiré Dalloz ، الاختبارات التي يتعين على جميع الطامحين لولوج  مهنة المحاماة الخضوع لها.

ومن بين هذه الاختبارات، المرافعة plaidoirie. فبادر بعض المتقدمين للامتحان إلى تبني فكرة الاجتماع بشكل غير رسمي للتحضير لها. فبالإضافة إلى كونهم يطمحون لمعانقة مهنة المحاماة، فهم كانوا يعتزمون التدرب على التحضير الجيد وفي أفضل الظروف للترافع بمجلس الدولة وبمحكمة النقض.

وفي الوقت نفسه، ساعدت هذه التدريبات المحامين في المجالس على اختيار من يخلفهم وفقًا لقدراتهم. ويمكننا أن نفترض أنهم هم أنفسهم شجعوا مساعديهم على المشاركة في هذا التمرين المهني.

ويجب التذكير هنا بأن المحامين في المجالس قد تم الترخيص أو السماح لهم بتقديم ملاحظات شفوية أمام مجلس الدولة منذ سنة 1831، وأن جميع القضايا المعروضة على الغرفة المدنية والمحكمة  بكامل هيئاتها قد تم الدفاع عنها ومناقشتها.

وأخيراً، أصبح من المعتاد تقديم ملاحظات شفوية أمام مجلس الدولة، يتم عرضها أمام غرفة الاستئناف، وأمام الغرفة الجنائية، في عدد معين من القضايا– حيث كانت قضية واحدة تقريبًا من ضمن ثلاث قضايا (1/3) في نهاية القرن التاسع عشر يسمح فيها بالترافع الشفوي.

إلحاق  الندوة  بالهيئة

وفي سنة 1858، قرر مجلس الهيئة، برئاسة بول فابر Paul Fabre ، إلحاق الندوة بالهيئة. حيث تستمر “الندوة” في امتلاك أجهزتها الخاصة، ولكن تم ربطها مع الهيئة. ففي كل أسبوع يتولى عضو من أعضاء الهيئة، بتفويض من قبل مجلس الهيئة، مهمة حضور الاجتماعات، التي تعقد بمقر الهيئة. ويُطلق عليه أحيانًا اسم ندوة بورطاليس Portalis، وسرعان ما عرفت هذه الندوة، لدى العموم، بندوة محكمة النقض.

img-conf-portalis-2021

وجاءت حرب 1870-1871[5]، وما تلاها، لتقبر الفكرة. وفي سنة 1874 ، وكجزء من التفكير في تدريب المحامين المقبلين على ولوج المهنة بمجلس الدولة وبمحكمة النقض، أعادت الهيئة، برئاسة رودولف دارست Rodolphe  Dareste، تفعيلها من جديد.

ولمدة15عاما، استمرت الندوة في الاجتماع، بحضور عضو من مجلس الهيئة. وفي سنة 1890، أعاد مجلس الهيئة تنظيم الندوة، فحدد سماتها الأساسية، بحيث يتراءس رئيس الهيئة الاجتماعات. ويتم الافتتاح الرسمي لها كل سنة بخطاب يلقيه رئيس الهيئة وبكلمة من أحد أعضاء الهيئة. وتشرف على الندوة سكرتارية، كما يتم تخصيص رتب تصنيفية لأعضائها.

وهنا يجب التمييز، حسب النظام الفرنسي، بين ندوات التمرين، التي كانت تعقد على طول السنة ( والتي لم يعد لها مكان بعد إحداث المعاهد الجهوية لتكوين المحامين) وبين الندوات التي يطلق عليها اسم “الندوات الصغرى” petite confèrence والتي تنظم من طرف الندوة وجمعية المحامين الطلاب (AEA) على شكل مسابقة بلاغة أو فصاحة سنوية للطلاب المحامين في مدرسة الهيئة للتكوين المهني EFB لفائدة التلاميذ المحامين، والتي يتمرن فيها هؤلاء على بعض المواضيع بمساعدة كتاب ندوات التمرين، وبين مباراة ندوة التمرين التي يتم أثناءها اختيار كتاب الندوة الإثنى عشر، والتي ما زالت تنظم كتقليد راسخ لهيئة المحامين بباريس.

ومن مهام هذه  الندوة الصغرى الأساسية إعداد المرشحين لـمباراة الندوة Concours de la Conférence التي تكون مفتوحة لهم بعد أداء اليمين.

خضوع ندوات  التمرين في المغرب إلى  تقاليد  وأعراف مهنة  المحاماة

من خلال المعطيات التاريخية الواردة أعلاه، يتبين أن هاجس الدولة والمجتمع (المشرع) وراء دوام واستمرار رسالة المحاماة، كحاجة ملحة في كل مجتمع، يشدو ويطمح للعدالة والحقيقة ووضع معايير لضمان استمرار هذه الرسالة، ومواصلة أداءها بالكيفية التي تقتضيها شروطها، من استقلالية وحرية ونزاهة ضمير.

ومن بين هذه المعايير الدور الذي تلعبه ندوة التمرين كاختبار للجسم المهني في مدى صموده وقدرته على مواصلة تحمل أعباء الدفاع، باعتبارها مسؤولية تتناقلها الأجيال وتضمنها الدولة ويحميها المجتمع.

ومن هنا تسعى ندوة التمرين إلى الرفع من مستوى المحامين المتمرنين العلمي والقانوني وتأهيلهم مهنيا وسلوكيا في مجال التطبيق العملي، لممارسة المهنة وفق تقاليدها وأعرافها، بما ينسجم مع أحكام قانون تنظيم مهنة المحاماة ونظمها الداخلية.

وتحرص هيئات المحامين، من خلال نظام التمرين، على نهج أنجع السبل لتوجيه المحامي المتمرن نحو البحث العلمي، وتزويده بأصول ممارسة المهنة والمبادئ التي تقوم عليها، وإعداده بشكل يتيح له إمكانية معالجة مختلف أنواع النزاعات، والمهام المرتبطة بممارسة المهنة، ليكون بذلك مؤهلا لنيل لقب المحامي المتمرس.

وكانت ندوات التمرين تخضع كذلك إلى تقاليد وأعراف مهنة المحاماة إلى غاية صدور ظهير 10 يناير 1924 (المنظم لمهنة المحاماة) الذي كرسها قانونيا بمقتضى الفصل 24 منه، ونص على أن “التمرين يشمل بالضرورة (…) المشاركة في أشغال ندوة التمرين في الهيئات التي توجد فيها الندوة المذكورة”.

التأهيل  العملي  للندوة

إن هذا القانون، والصيغ التي أتت من بعده، لم تتطرق للجانب العملي لهذه الندوة، ولم تعمل على تقنين كيفية تنظيمها، بل ترك الأمر موكولا للهيئات، التي عليها أن ترجع لتقاليدها وأعرافها في هذا المجال.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، يخصص النظام الداخلي لهيئة المحامين لدى محكمتي الاستئناف بأكادير والعيون المواد 80 إلى 84 لندوة التمرين، التي تعقد مرة في الشهر على الأقل، ويديرها النقيب، أو من ينيبه عنه من أعضاء المجلس. وإذا تجاوز عدد المحامين المتمرنين خمسين فردا، أمكن للنقيب توزيعهم على مجموعات يحدد عددها في بداية كل سنة، ويعين عند الاقتضاء لكل منها مديرا (مادة 80) وجعل حضور أشغال ندوات التمرين ضروريا وإلزاميا (مادة 81) ويحدد مدير الندوة مواضيعها التي تهتم أساسا بالأعراف وبالتقاليد المهنية وبدراسة القضايا القانونية (مادة 82) كما خصصت مواد أخرى لمباراة اختيار كاتب الندوة وللافتتاح الرسمي لندوة التمرين. وهي كلها مجرد إجراءات شكلية مجردة، لا تؤمن ولا تضمن الوصول إلى الأهداف المنشودة من ندوة التمرين (دوام واستدامة رسالة الدفاع).

عجز منظومة التكوين

بمناسبة النقاش الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، أثيرت إشكاليات عديدة تهم مجال تكوين المحامين، حيث أشارت العديد من التقارير إلى أن الواقع والممارسة المهنية تؤكدان بالملموس أن فترة التمرين لم تعد تمكن عددا لا يستهان به من المقبلين على المهنة من الاستفادة من تمرين وتكوين في المستوى المطلوب لأسباب لا حصر لها تبتدئ من ضعف الحماس لدى هؤلاء المتمرنين، نظرا لكون جلهم لم يلتحق بالمهنة عن رغبة فيها واقتناع بها، ومن جهة ثانية لكون العديد منهم يستعصي عليه إيجاد فرص للالتحاق بمكاتب تتوفر فيها شروط التأهيل والتكوين. كما أن ردهات المحاكم اختفى منها جل المحامين القدامى الذين كان المحامون المبتدئون يستفيدون، ليس فقط من مرافعاتهم وتدخلاتهم، بل أيضا من سلوكهم وكيفية تعاملهم مع بعضهم البعض وكيفية تعاملهم مع المحكمة.

وبخصوص ندوات التمرين تمت الإشارة إلى أنها لا تتم بانتظام وبالشكل الذي يوفر تأطيرا فعالا للمقبلين على المهنة.

إضافة إلى ذلك، وبتصفح الكتب والمقالات العلمية للسادة النقباء والمحامين، يتضح بجلاء فشل تجربة ندوات التمرين، وكذا طريقة انعقادها وتسييرها. مما يفرغها من محتواها الأساسي، ألا وهو التأطير والتكوين وتقديم القدوة الملهمة في المجال ليكونوا النبراس الذي يحتدى به .

وبخصوص تكوين المحامين، وفي قراءة للفصل السادس من قانون مهنة المحاماة، الذي ينص على أنه: “تمنح شهادة لمزاولة مهنة المحاماة من طرف مؤسسة للتكوين، فالمشرع المغربي نص صراحة على ضرورة إحداث مؤسسة للتكوين كفيلة بتأطير المحامي المتمرن وتكوينه وهي ”مؤسسات التكوين”; وأرفقها بضرورة صدور نص تنظيمي من شأنه تفصيل جزئيات هذه المؤسسة التكوينية الهامة. لكن هذه المؤسسة ظلت غير موجودة حتى الآن.

فعلى سبيل المثال، فالنموذج الفرنسي الذي يتمثل في مدرسة للتكوين المهني للمحامين التابعة لمحكمة الاستئناف بباريس (L’EFB, l’Ecole de Formation professionnelle des Barreaux) هو الفضاء الاحترافي، الذي ينتقل فيه الطلاب المحامون من وضع طالب القانون إلى وضع المحامي المتمرس. وتسمح الهندسة البيداغوجية المعتمدة للطلاب المحامين  باكتساب:

  • الخبرات والمهارات الأخلاقية (savoir-être): حيث تحتل القيم والتقاليد والأعراف وأخلاقيات مهنة المحاماة مكانة مهمة في التدريب،
  • الخبرات والمهارات المهنية العامة (savoir-faire généraliste): حيث يجب أن يكون أي محام جيد على دراية وعلم بتعدد التخصصات في ممارسة مهنته،
  • الدراية المتخصصة (savoir-faire spécialisé) التي ستسمح للمحامي المستقبلي بالعمل بشكل جيد وفعال، بعيدًا عن المفهوم النظري للقانون، بشكل يجعل المدرسة فضاءا مهنيا يقدم نهجًا علميًا وعمليًا لممارسة مهنة القانون.

ومن الإكراهات العملية التي تواجه بعض الأساتذة المتمرنين أثناء قضاء فترة التمرين هناك الظروف غير اللائقة بمكاتب بعض السادة المحامين، إما من حيث ضيقها أو كثرة عدد المتمرنين، والتي لا تمكنهم من التمكن من أعراف المهنة وتقاليدها كما يجب، هذا، إلى جانب مجموعة من المصاريف والتي قد تقع سدا منيعا في الحضور للندوات والمؤتمرات التي تنظمها هيئات المحامين الأخرى بالمغرب; والتي لا ينكر إلا جاحد أهميتها. مما ينعكس سلبا على المهنة ككل، ويؤدي بالتالي إلى عدم تلاقح أفكار الأساتذة المتمرنين واهتماماتهم مع باقي الزملاء …

جاذبية متآكلة ودعوة إلى تطوير المحاماة لضمان استدامتها

إلى جانب المحامي الممارس يوجد المبتدأ – السائر على دربه – المحامي المتمرن، وهو الذي تم قبوله للولوج إلى مهنة المحاماة بعد اجتيازه لمباراة الأهلية لمزاولتها.

وما زالت المحاماة مؤطرة في المغرب بموجب القانون رقم 28/08 المؤرخ في 20 أكتوبر  2008 الذي يظهر أنه أصبح متجاوزا. هذا الأخير الذي يطرح أكثر من سؤال بخصوص قصور مقتضياته تجاه المحامي المتمرن، وكذا التراجعات التي لوحظت في العديد من مقتضياته وبنوده. مما جعله يمس بالضمانات والمكتسبات والحقوق الكفيلة بمزاولة المحامي المتمرن لمهامه بشكل جيد وفي ظروف ملائمة إلى أن يتم تسجيله رسميا؛ هذا إضافة إلى مجموعة من العراقيل التي تواجهه في مزاولة مهامه، بل ومن أول خطوة يخطوها نحو باب ارتداء البذلة السوداء .

وقد حاول المشرع المغربي معالجة الأمر، حيث تضمن مشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة لسنة 2019 منح شهادة الكفاءة لممارسة مهنة المحاماة من طرف معهد التكوين (المادة 6) .

واقترح مشروع القانون الذي هيئته جمعية هيئات المحامين أن تشمل الهندسة التكوينية تكوينا معمقا في مختلف فروع القانون وفي مهارات الدفاع وقواعد تنظيم العمل القضائي وقواعد ممارسة مهنة المحاماة وأعرافها بجانب تعزيز المهارات في الاعلاميات واللغات.

كما خصص المشروع الفرع الثالث للتمرين، (المادة 12) حيث شدد على ضرورة المواظبة على حضور ندوات التمرين والمشاركة في أشغالها (الفقرة 3 من المادة 15).

تمرين  مدعو  إلى التطوير  والتجديد الطويل الأمد

على مر السنين، تغيرت الأعراف وطرق التعبير وأنماطها. وتنطبق هذه الملاحظة على اللغة وبناء الخطاب واختيار الحجج وطريقة صياغتها.

ولكي يتم الانتفاع من كل هذه التغييرات المرتبطة بالتقنيات وباللغة وتركيبها والتعبير عنها، فعلى المحامي المتدرب أو المتمرس الراغب في الاستمرار في الإقناع، أن يكون ابن عصره وزمانه، أي أن يكون حداثيا.

لكن، بجانب التغييرات، نلاحظ أن هناك ثوابت، تتمثل أساسا في:

  • استمرار الشغف للنقاش القانوني، وأكثر من ذلك للنقاش والترافع الشفوي أمام الهيئات التي عليها إقرار القوانين، والحكم بموجبها.

وهو ما لا يستبعد، ثابتًا آخر، وهو ضرورة ملائمة الخطاب القانوني وتبسيطه، لتسهيل تعبير الشخص بطريقته الخاصة، ووفقًا لبيئته الأصلية.

فيمكن أن يستعير الخطاب بعض ميزاته من الدروس العامة  للجامعة، المرتبطة بعلوم اللغة، وبفنون الترافع، وغيرها.

ولقد ظهر في الآونة الأخيرة من يعلن تخوفه على انقراض مهنة المحاماة أو انتهائها في المستقبل، إذا بقيت أنظمتها على ما هي عليه. وهو ما أدى إلى الحديث عن فكرة “العيادات القانونية” بإنشاء نظام تعليمي مبتكر، بدعم من نقابة المحامين، مستوحى من النموذج الأمريكي، مع تكييفه مع كل سياق وطني.

كما أن هناك من الجامعات من يدرس القانون الإكلينيكي enseignement clinique du droit كما هو الشأن في الولايات المتحدة منذ القرن الماضي، كنوع من ممارسة التدريس السريري للقانون، باعتبار أن نقل المعرفة القانونية يغلب عليه الطابع النظري.والغرض منه هو تدريب طلاب كليات الحقوق على التعامل مع الأسئلة القانونية الملموسة في “عيادات قانونية” تقدم للجمهور فحصًا مجانيًا لهذه الأسئلة.

فأصبحت هذه التصورات تنتشر على شكل شبكات في مختلف الدول. ولا شك أن الموجة قد تصل إلى المغرب، وتساهم في تحسين نوعية التكوين الموجه للطلبة الراغبين في ولوج مهنة المحاماة.

وبشكل عام، فإن أي إصلاح يرمي إلى تطوير منظومة العدالة بالمغرب لا يأخذ بعين الاعتبار وضعية المحامي المتمرن يبقى إصلاحا ترقيعيا لا يرقى إلى المستوى المطلوب؛ ذلك أن هذه الفئة تشكل لبنة جوهرية في صرح المنظومة القضائية كونها جزء لا يتجزأ من أسرة العدالة .

ولا شك أن تكوين المحامي المتمرن يلعب دورا أساسيا في تطوير مهنة البذلة السوداء بالمغرب. فتأطيره التأطير اللازم والأخذ بيده خطوة خطوة كلها أمور كفيلة بفتح الأفق أمامه عبر الاحتكاك بالواقع العملي ، وإعطائه الفرصة لبداية الترافع نسبيا أمام المحاكم.

لهذا، أصبح من الضروري التفكير في كيفية إعادة تنظيم وتطوير ندوة التمرين لتضطلع بأدوارها في دعم رسالة المحاماة، لتفجير الطاقات الإبداعية والخلاقة لمفهوم الحرية والمسؤولية، باعتبارها من متطلبات فهم الواقع وتحليله في مسلسل الحياة والتطور، وتعزيز استمراريتها وديمومتها،  بالتركيز على البعد العملي والتطبيقي .

خاتمة

إن مناسبة الحديث والدافع  وراء إثارة الجذور والغايات من ندوة “التمرين” هو ما أثار انتباهي أثناء انعقاد ندوة التمرين الأخيرة بأكادير بتاريخ 8 مارس 2022 والمستوى الرفيع للعرض الذي قدمته كاتبة الندوة، التي اختيرت لذلك، بناء على تفوقها وقوة حدسها في التحليل.

وكذلك ما أثار انتباهي حول صخب النقاش المثار بمناسبة تنظيم ندوة التمرين الوطنية بمدينة الناضور في 11 يونيو 2022، من طرف جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وما تلا ذلك من ملاحظات تتسم بالشدة والابتعاد عن جوهر الموضوع وعمق فكرة ندوة التمرين. إلا أن خطاب الرئيس المنتدب للمجلي الأعلى للسلطة القضائية [6] بتطوان، في نفس المناسبة، أشفى الغليل بالرد على كل تلك الملاحظات، عندما ذكر بالموقع الصحيح لمهنة المحاماة ودورها في تحقيق وبناء هرم العدالة داخل منظومة متوازنة، يشدو إليها المغرب الحديث.

مما جعلني أؤكد بأن ندوة التمرين وما يدور حولها، ليست مجرد شكليات، قد تبعدها عن جوهر معانيها وعمق دلالتها، والتي لا يمكن اختزالها في مجرد التباري والتنافس على الألقاب ، رغم  رمزيتها.

لأن التباري هو صيرورة دائمة في شريان المهنة، وفي روحها، وهي التي تضمن لها التجديد والاستمرار، لأنها تشدو إلى الحرية وتسعى نحو الابتكار والابداع داخل المجتمع.

فندوة التمرين هي مناسبة لاختبار الجسم المهني ، هل ما زال يحافظ على اللحمة المهنية التي تميزه؟ وهل ما زال متمسكا بروح الزمالة والانتماء للجسم الواحد؟

وهذا الرابط العضوي يتكون من عنصرين أساسيين: أصول الأخلاق وأصول المعرفة. وهي عناصر تعطي للمحاماة إمكانية ملء مركزها الاعتباري لضمان توازن معادلة العدالة والحقيقة .

وبمناسبة ندوة التمرين، يتم اختبار توفر هذا التماسك المهني ، لذلك يتم الإعلان عنها، وتتم دعوة المحامين الشباب للإختبار والتباري، ويتم اختيار أحسن عرض، ليشغل صاحبه  منصب كاتب الندوة.

فالإختبار في حد ذاته مؤشر دال على أن مهنة المحاماة ما تزال تحمل مقومات رسالتها. ويتم التأكد من خلال هذا التمرين بأن المهنة تحمل الضمانات لأداء رسالتها، وأن هناك مؤشرات للاطمئنان على مستقبلها، لكونها تؤدي رسالتها بشكل كامل.

ويتم اختبار هذه الرسالة المهنية في قوتها وصلابتها، وفي سموها وفي قدرتها على تجاوز العقبات والحواجز.

لأن رسالة المحاماة هي الروح والصمود والإبداع والابتكار، واختبارها يتعدى مجرد المباراة حول موضوع أو مواضيع قانونية معينة، بل هو مدى قوة العناصر المكونة لهذه الرسالة ودوامها وقدرة حامليها على البلورة المستمرة إلى الكشف عن نوع وطبيعة التأهيل ومدى قدرتها على المواصلة والاستمرارية والاستدامة.

فإذا ظهر ضعف، أو تبين أن كان هناك خلل ما يمس الجسم المهني، فتدعى أجهزة الهيئة، بما فيها الدولة، الحاضنة للهيئات ، لكي تبادر إلى تصحيح المسار بالشكل الذي يجعل هذه الرسالة متقدة الشعلة ودائمة التألق والسمو والنمو، بكامل مكوناتها الأخلاقية والعلمية.

هذا هو عمق رسالة “ندوة التمرين” بالرجوع إلى جذورها وبالتمعن في غاياتها المثلى، وليس الغرض منها هو التباري من أجل التباري، بل هي أداة مهنية لقياس الأداء وقياس حرارة الجسم المهني وجس نبضه.

عبد اللطيف أعمو

للإطلاع على نسخة من المقال، بصيغة PDF،

(انقر فوق العنوان أسفله)

ندوة  التمرين:  الجذور والأهداف والغايات

من فن المرافعة إلى فن التحليل

[1]  – لوحة لغابرييل دي سان أوبين (1724-1780) تمثل  ندوة بمكتبة المحامين بباريس تعود لسنة 1776. تنتمي هذه اللوحة للمجموعة الفنية الدائمة لمتحف هيئة المحامين بباريس.
[2]  – “روح القوانين” هو ثمرة عمل لمونتسكيو Montesquieu لمدة أربعة عشر عامًا ، وهو عبارة عن أطروحة حول النظرية السياسية ، نُشر في جنيف في سنة 1748.
[3]  – ينسب إلى أنتيفون حوالي 60 خطابًا، لكن المصادر التاريخية تحتفظ بستة منها فقط كاملة، بالإضافة إلى أجزاء من عشرين خطب أخرى. ويعود تاريخ خطابه الأول إلى سنة 430 قبل الميلاد. ويعتبر أنتيفون مؤسس البلاغة القضائية، وهو أحد أنواع البلاغة اليونانية الثلاثة – وهو علاوة على ذلك الخطيب الأول الذي نُشرت خطاباته. وهو مؤلف كتابTetralogies ، وهي تمارين بلاغية على شكل خطب معيارية تقارن بين خطابين للدفاع والنيابة العامة، وكذلك لقضايا القتل. و في أعماله، يوضح أنتيفون الإجراءات الفنية لإلقاء خطاب جيد، ويقدم قائمة بالحجج القياسية في جميع المرافعات، وهو الذي أدخل تقنية المحاكاة الواقعية، بإلغاء الفرضيات غير المحتملة لإثبات براءة المتهم أو إدانته..
[4] – ندوة التمرين، خالد خالص، الحوار المتمدن –  العدد: 1737 – 2006 / 11 / 17  المحور: دراسات وابحاث قانونية
[5] الحرب الفرنسية الألمانية أو الحرب الفرنسية البروسية، ويشار لها أحياناً باسم الحرب السبعينية  (19 يوليو 1870 إلى 10 مايو 1871) وكانت صراعًا مسلحًا نشب بين الإمبراطورية الفرنسية الثانية بقيادة نابليون الثالث والولايات الألمانية للاتحاد الألماني الشمالي بقيادة مملكة بروسيا.
[6] https://www.cspj.ma/actualites/details?idact=10533









الرجاء من السادة القراء ومتصفحي الموقع الالتزام بفضيلة الحوار وآداب وقواعد النقاش عند كتابة ردودهم وتعليقاتهم. وتجنب استعمال الكلمات النابية وتلك الخادشة للحياء أو المحطة للكرامة الإنسانية، فكيفما كان الخلاف في الرأي يجب أن يسود الاحترام بين الجميع.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الموقع الرسمي للمستشار البرلماني عبداللطيف أعمو © www.ouammou.net © 2012