?>

استقلال القضاء مازال حلما في ظل مشروع الإصلاح الحالي

3

خلال مناقشة الميزانيات المرتبطة بلجنة العدل والتشريع أدلى الرفيق عبد اللطيف أوعمو بملخص مداخلته ؛ باسم فريق التجديد والتقدم الديمقراطي ؛ وندرج أسفله النص الكامل للمداخلة.

استقلال القضاء مازال حلما في ظل مشروع الإصلاح الحالي

انطلق مشروع إصلاح العدل في المغرب إثر النكسة التي عرفها القضاء في ظل الحكومات السابقة لما فاضت بمناسبة ما يطلق عليه ” بمحاكمة التهريب ” بالدار البيضاء خلال سنة 1996، تلك المحاكمة التي أبانت عن مدى عمق أزمة القضاء استقلالا وأداء وأخلاقا.

فلم تكن مهمة تقويم الإعوجاج وإصلاح الهياكل ووضع خطة شمولية لإصلاح القضاء بمسألة هينة في ظروف تتسم بالانكماش الاقتصادي والتوتر الاجتماعي وفقدان الثقة.

في هاته الوضعية أخذت الحكومة الحالية على عاتقها من خلال تصريحها الأول والثاني أمام البرلمان وضع مشروع متكامل لإصلاح القضاء وإنجازه في مراحل ووفق خطوات هادئة ومحكمة وفي أمد متوسط تقوم فيه بإعادة هيكلة القضاء وتوفير الشروط الذاتية والموضوعية، بشكل يجعله قادرا على مواكبة التحولات السريعة التي يعرفها المجتمع المغربي نحو الانفتاح والحداثة وترسيخ دولة الحق والقانون ودمقرطة المجتمع ودعم الثقة اللازمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وبعد مرور أربع سنوات على انطلاق هذا الورش، يحق لكل مغربي أن يتساءل حول مدى تقدم المشروع وعن المهام المرحلية التي أنجزت خلال هذه السنوات الأربع والآفاق التي رسمت نحو المستقبل.

إن التقييم الموضوعي انطلاقا من المقاربة الظرفية، يسمح بالإقرار بأن ما أنجز على مستوى تقويم الهياكل الموجودة وعقلنة عملها وتحسين مستوى التكوين وخلق آليات التحديث، يعد مكسبا جادا يمكن حسن استعماله من إنجاز مهام المراحل المقبلة.

إلا أن ما تحقق على مستوى تقوية الأخلاقيات المهنية وعلى مستوى ترسيخ استقلال القضاء وجودة الأحكام وتوسيع وتسهيل حق الولوج إلى الخدمات القضائية وتفعيل المهام الجديدة لإدارة السجون، ما زال في بداية انطلاقه ويصعب الجزم بأن ما تحقق في هذا المضمار يعد مكسبا أو قيمة إضافية تسمح بالتفاؤل.

وهذا ما يفسر بقاء ظاهرة الاستياء العام والشعور بانعدام الثقة لدى عموم المواطنين في مؤسساتهم القضائية.

إن استقلال القضاء ما زال حلما في ظل مشروع الإصلاح الحالي، فرغم أنه يعد مبدأ دستوريا أقر لفائدة المتقاضي ولضمان المساواة أمام القضاء ولضمان نزاهة وتجرد القاضي، فضلا عما لاستقلال القضاء من ارتباط عضوي وثيق بالديمقراطية، فإنه لم يترسخ بعد كقيمة أساسية وكسلوك مجتمعي وممارسة تلقائية يشعر بها القاضي في كل لحظة كالتزام يشعر الجميع بواجب الدفاع عنه والتصدي إلى كل ما يمس به.

فما زالت السلطة التنفيذية بمختلف أجهزتها لا تتورع في انتهاك استقلال القضاء، وما زال القاضي يعتبر استقلال القضاء امتيازا شخصيا قرر لفائدته ويتصرف فيه كيفما شاء، وما زال المتقاضون يعيشون بثقافة التدخلات في الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم أمام القضاء وأمام الإدارة كذلك.

أما الأخلاق المهنية للقضاء, فإنها ما زالت موضوع شبهة يصدع بها مستوى الأحكام غير الجيدة وتناقض الاجتهادات حتى بداخل محكمة واحدة وتقمص سلوك السلطة الفعلية على حساب السلطة القضائية ومقوماتها وصفاتها، إضافة إلى تفشي مظاهر الثراء غير المبرر وبدون حساب، زيادة على انتشار الفوارق ومظاهر المحسوبية وغياب سياسة الدعم والعناية بالمصالح المادية للقضاة.

ولقد اتجهت وزارة العدل إلى وضع آليات وبرامج تنفيذ الإصلاح الذي أقرته الحكومة في إطار المخطط الخماسي والعمل من أجل ضمان ممارسة شفافة وموضوعية في تدبير المسار المهني للقضاة ودعم مصداقية السلطة القضائية، وذلك من خلال تفعيل أداء عمل المجلس الأعلى للقضاء، وكذلك من خلال إعطاء الدور التأطيري والوقائي لجهاز التفتيش وتنشيط أدائه بواسطة قضاة أكفاء، وأيضا من خلال تكثيف التواصل داخل المؤسسات القضائية وخارجها وتحفيز الرؤساء ووكلاء الملك ومضاعفة نشاط التكوين.

كل ذلك أدى إلى خلق شروط جديدة لمواصلة عمل الإصلاح وما ترتب عن ذلك من شعور عام أصبح يسود ويدفع الجميع إلى الانخراط في عملية الاصلاح، فخلقت بذلك شروط ذاتية لم تكن متوفرة في السنوات الماضية.

ويعتبر هذا في نظرنا مكسبا أساسيا يجب الدفع به لتفعيل الظروف الموضوعية المرتبطة بالإصلاح والتي على الحكومة أن تهيئ لها الإمكانيات اللآزمة والمطلوبة.وفي هذا المجال نلاحظ أن ميزانية وزارة العدل قد حظيت بعناية خاصة في القوانين المالية خلال السنوات الأربعة الماضية، لكن ورش إصلاح القضاء يعتبر حلقة مركزية في المشروع العام لإصلاح وهيكلة البلاد وتحديثه.

إلا أن الميزانية التي نحن بصددها برسم سنة 2002 فاجأت الحميع بكونها تسجل تراجعا ملموسا في ميزانية التسيير بنسبة 4.33 في المائة وتقليص ميزانية الإستثمار بنسبة 11.55 في المائة وتحديد مناصب الشغل الجديدة في 400 منصب، وهي مؤشرات ومميزات خاصة من شأنها أن تثير تساؤلات عن نوايا الحكومة ومدى استعدادها لمواصلة إنجاز إصلاح القضاء.

فبعد أن دخل هذا الورش سنته الخامسة وما تحقق من مكتسبات خلال السنوات السابقة تفرض على الحكومة مضاعفة الجهود في تكريسها للدفع بالإصلاح إلى مرحلته الهيكلية الحقيقية التي يتحتم خلالها تحقيق استقلال القضاء وإبرازه كقيمة وسلوك وتتقوى فيها السلطة القضائية كمؤسسة في قلب تأطير التحولات المستمرة التي يعرفها المجتمع.

وهو ما يجعل على عاتق الحكومة واجب مواصلة الإصلاح باعتبار أن الميزانية هي التعبير الواضح عن نية الإصلاح وعن الشجاعة في الإقدام عليه. فإذا كانت نية الإدارة السياسية في الإصلاح لم تعد موضع أي شك بتلاحم إرادة جلالة الملك وإجماع الأمة عليه، فإن التعبير عن نية مواصلة الإصلاح من طرف الحكومة لا يمكن أن يتم إلا من خلال ما تخصصه لهذا الورش الكبير من الاعتمادات المخصصة لوزارة العدل في ميزانيتها.

فلم يعد من حقها أن تتراجع كيفما كانت المبررات الظرفية التي تتذرع بها. ونحن نأمل أن تبادر إلى استدراك الأمر بإعداد ميزانية ملحقة تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة التي تفرض تنفيذ القوانين الجزئية التي صادق عليها البرلمان والتي ما زال يناقشها، والتي هي من صميم إصلاح القضاء (كتنفيذ قانون إصلاح المؤسسات السجنية، مشروع المسطرة الجنائية، إلخ…) ومن جهة أخرى، فإننا نرى أن على السيد وزير العدل، العمل على تقديم ميزانية قطاع العدل إلى الرأي العام عن طريق وسائل الإعلام المختصة والعامة ليسجل بذلك مشروع وزارة العدل ضمن الأولويات الملحة مقارنة مع السياسات التي انطبعت بها الميزانيات السابقة.

وفي هذا الإطار، يتعين في ظل كل ميزانية، تسطير الأولويات الخاصة بها لمواصلة السياسة المحددة من طرف الحكومة، وذلك حتى لا تبقى ميزانية وزارة العدل عامة ومتأثرة بسبب تزايد الحاجيات وتعددها. وفي نظرنا، فإن المواطن المغربي بحاجة إلى عدالة جيدة وبحاجة إلى تسهيل وتوسيع حقه في الولوج إلى خدمات العدالة، كما أن المجتمع بحاجة إلى مؤسسات سجنية فعالة تؤدي مهمة الإصلاح والتأهيل والإندماج في أحسن وجه.

فإذا كان على الحكومة أن تبادر باستمرار إلى تحسين الظروف التي تصنع فيها العدالة من بنيات تحتية، ببناء المحاكم وتجهيزها وفق الشروط الملائمة ووفق خريطة قضائية مضبوطة، والمبادرة إلى تحسين أحوال العدل والتي تنتج العدالة، كأحوال القضاة ومحيطها، وأن تبادر كذلك إلى اتخاذ التدابير الشجاعة لحماية العملية القضائية في منأى عن كل تدخل أو تلوث داخلي أو خارجي، فإن مهامها المستعجلة هاته ستبقى دائمة ومستمرة ومسترسلة، ولن تبرر تأخير تمكين المواطنين من العدالة الجيدة والإستفادة من الخدمات القضائية والولوج إليها.

ويعتبر مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي هيأته الحكومة ويناقش أمام البرلمان حاليا الإطار المركزي والأساسي لضمان حقوق المواطنين وحرياتهم، ويتطلب تنفيذه وتطبيقه إمكانات مالية وبشرية هائلة لا بد للميزانية أن تتوقعها وعلى الحكومة أن تبحث عنها.

وتخصيص 400 منصب شغل في قطاع العدل لا يرتقي بكل تأكيد إلى المستوى الأدنى لمتطلبات المرحلة الراهنة في تحقيق العدل بالمقارنة مع ما تقوم به بعض الدول الأخرى كفرنسا مثلا، والتي أخذت على عاتقها عند إعداد ميزانيتها برسم سنة 2002 تنفيذ متطلبات إحداث مقتضيات جديدة في قانون مسطرتها الجنائية والمتعلقة بقرينة البراءة، فخصصت لها وحدها مبلغ 58 مليون أورو و 693 منصب شغل جديد، أي ما يعادل ثلث مناصب الشغل الـــمستحدثة و 13 %من القروض المعتمدة للمصالح القضائية منذ سنة 1999.

ولا شك أن الجميع يدرك بأن تنفيذ قانون المسطرة الجنائية الجديدة سيتطلب وضع مخطط لمقاومة الانحراف والجنوح لدى القاصرين وحماية الطفولة، كما سيتطلب وضع برنامج لحماية المجتمع من الجريمة ومخطط لتحسين تفعيل العدالة وسرعتها وتحديد آجال للبث في المنازعات وإصدار الأحكام.

كما أن وضع قانون المسطرة الجنائية الجديد وتنفيذ مقتضياته الإصلاحية يتطلب مضاعفة الجهود لتوسيع وتسهيل حق الولوج والوصول إلى خدمات العدالة، وما يتطلبه ذلك من إجراءات وتدابير إضافية لحماية حقوق الدفاع. ومن جانب آخر، فإن المؤسسة السجنية ما زالت تزداد تدهورا بسبب الاكتضاض وانتشار الأمراض المختلفة والمعاملة السيئة.

الشئ الذي يتطلب بدوره إمكانيات إضافية لتنفيذ مقتضيات القانون الذي صدر منذ سنتين بإصلاحها ويستهدف تحويلها من مؤسسة عقاب لا إنسانية تنتهك فيها الحرمات إلى مؤسسة إنسانية تضطلع بمهام الإصلاح والتأهيل للإدماج. كما أن عدم تمكين هذه المؤسسات من اعتمادات كافية جعل تنفيذ وتطبيق أحكام القانون رقم 98/23 الصادر بتاريخ 25 غشت 1999 المتعلق بإصلاح المؤسسات السجنية أمرا صعب المنال، فحرم بذلك الإنسان المغربي من الإستفادة من مقتضيات قوانين قائمة تضمن له الحماية والشعور بإنسانيته.

فبجانب حاجيات دعم برنامج بناء المحاكم والمؤسسات السجنية ودور الإيقاف، فإن إدخال بدائل الاعتقال والسعي إلى إحداث نظام التأهيل والإندماح تعتبر من المهام والوظائف الجديدة الملقاة على القضاء بجميع مؤسساته، وهو ما يفرض أيضا على الحكومة تهيئ الاعتمادات المالية لإنجاز هذه المهام وتنفيذها.

وإننا قد نخاف أن يستمر هذا التعامل غير الملائم وغير المنسجم بين مخصصات الميزانية من جهة والأهداف المتوخاة من إصدار القوانين وتنفيذها من جهة أخرى. هاته القوانين الجديدة التي تؤطر إصلاح القضاء وتجعله في خدمة التنمية وخدمة الإنسان، ونحن على أبواب المصادقة على قانون الصحافة والحريات العامة.

فالعبرة في نظرنا ليست بإصدار قانون بل بما حمله هذا القانون من مهام ووظائف جديدة تدعم المجتمع وتسعى إلى حمايته وتقوية انسجامه. وواجب الحكومة يتجلى في مدى قدرتها على تفعيل وتنفيذ مقتضيات القانون وإنجاز محتواه في أسرع وقت وما توفر لذلك من إمكانيات مادية وبشرية تضمن لها الدوام والإستمرار والتجديد.

ونعتقد أنه قد حان الأوان لإعادة النظر في الكيفية التي تهيأ بها ميزانية الدولة والطرق التي ترسم بها الأهداف المرتبطة بها وترتيبها حسب كل قطاع والبحث عن مناهج جديدة توفر ما يكفي من الشفافية بالنظر إلى الحاجات الحقيقية والمستعجلة للمجتمع والمواطنين.

وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن متطلبات النزاهة في تقدير وتفعيل المنجزات تدعونا جميعا للعمل على الدوام لتجديد أدوات العمل ودعم آليات تنفيذ القوانين وترسيخ المنجزات، حتى يبقى إصلاح القضاء في مساره الحقيقي، وحتى يكون لموارد الميزانية ونفقاتها جدوى ومعنى لصالح الوطن والمواطنين.

صدر النص الكامل للمداخلة بجريدة ” بيان اليوم” * الجمعة 23 نونبر 2001 * ص 2

 









الرجاء من السادة القراء ومتصفحي الموقع الالتزام بفضيلة الحوار وآداب وقواعد النقاش عند كتابة ردودهم وتعليقاتهم. وتجنب استعمال الكلمات النابية وتلك الخادشة للحياء أو المحطة للكرامة الإنسانية، فكيفما كان الخلاف في الرأي يجب أن يسود الاحترام بين الجميع.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الموقع الرسمي للمستشار البرلماني عبداللطيف أعمو © www.ouammou.net © 2012